غزوة تبوك وما فيها من المعجزات
(2/3)
بقلم : سعادة الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ حفظه اللّه
منازل الناس في الغزوة :
لما كانت هذه الغزوة في سنة جدباء، والناس
في حاجة وعوز، والوقت صيفًا، بحرارة شديدة، والثمار قد طابت بالنسبة لأصحاب
المزارع، والروم بعددهم وعدتهم ممن يخشاهم عرب الجزيرة ويرهبون التعرض لهم منذ
أيام الجاهلية قد تهيؤوا.. فكانت هذه الأسباب محكاً للنفوس، وميزانًا تغربل به
الأعمال، وبلوى يمتحن الله بها الإيمان ومكانته من القلوب، كما قال سبحانه: ﴿اَلَّذِي
خَلَقَ الْمَوْتَ والْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾(18).
ولذا فقد ظهر الناس على ما بطن في قلوبهم،
فكانوا ثلاثة أنواع:
1 – المؤمنون المستجيبون .
2 – والبكاؤون الذين لا يحبُّون التخلف عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجدون عدة الجهاد من زاد وراحلة.
3 – المخلَّفون المنافقون الذين فضحهم الله
في هذه الغزوة بمواقف عديدة .
1 – فالفئة الأولى يوضح حالهم: المبادرة
بالسمع والطاعة لله ولرسوله، ولمن ولاّه الله أمرهم، استجابة فورية بالنطق بقولهم
سمعنا وأطعنا، وفعلية بالبذل: نفسًا ومالاً، وعملية بالمبادرة تهيؤاً للجهاد،
وتجهيزًا لمن لايستطيع. يقول سبحانه: ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِيْنَ ءَامَنُوْا
اسْتِجِيْبُوْا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(19).
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضّ أهل الغنى على النفقة، والحملان في سبيل الله،
بادر أهل الغنى دفعًا بالمال، وحملاً بالرواحل والزاد لمن لايستطيع، كلٌّ على قدر
طاقته، وما يسره الله له، وكان أول من بادر أبوبكر الصديق الذي جاء بماله كله، وهو
خمسة آلاف درهم، ثم جاء عمر بنصف ماله، ثم جاء عثمان بألف دينار في ثوبه فصبَّها
في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقلِّبها ويقول: "ما ضر ابن عفان
ما عمل بعد اليوم" رواه الترمذي.
وبدأ الناس يتدافعون، كل على قدر استطاعته
والمنافقون يستهزؤون بمن يدفع قليلاً.. ثم خطب
رسول الله صلى
الله عليه وسلم فحثَّ على جيش العسرة. فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم نزل عليه
الصلاة والسلام درجةً من المنبر ثم حثَّ. فقال عثمان: علي مائة أخرى بأحلاسها
وأقتابها. قال عبدالرحمن بن حباب السلمي راوي الحديث: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا، يحركها – وفي رواية – كالمتعجب "ما على عثمان
ما عمل بعد هذا"(20) وكل من أجاب دعوة رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الاستجابة
لهذه الدعوة بدون ريب أو تردّد؛ فهو داخل في الفئة الأولى، كأبي خيثمة وحكايته في اللحاق
برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركه ملذات الدنيا استجابةً لله ولرسوله حتى لحق
برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزوله تبوك، وكغيره ممن كمل جهازهم بعد رحيل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم لحقوا به.. أو ممن أثقل السير رواحلهم، مما دفعهم
إلى الخنوس فظنهم بعض الصحابة من المتخلفين، والمتسللين لواذاً؛ ولكن صدقهم
وإيمانهم دفعهم إلى اللحاق برسول الله صلى الله
عليه وسلم كأبي ذر
الغفاري رضي الله عنه، فقد روي في قصته عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف فيقولون: يا رسول
الله تخلف فلان، فيقول: "دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك
فقد أراحكم الله منه" حتى قيل يا رسول الله: تخلف أبوذر وابطأ به بعيره.
فقال: مثل مقالته السابقة. فتلوّم أبو ذر بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على
ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله
عليه وسلم ماشيًا، ونزل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض منازله. ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله
إن هذا الرجل ماشٍ على الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا ذر" فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر
فقال صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده"(21).
2 – ذكر ابن هشام في سيرته: أن رجالاً من
المسلمين أتوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهم البكاؤون
وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، من بني عمرو بن عوف، وذكر أسماءهم ومنهم عرباض بن
سارية الفزاري، وعبد الله بن المغفل المزني؛ فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه؛ فتولوا وأعينهم تفيض من
الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب
النّضريّ لقي أبا ليلى عبدالرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان. فقال: ما
يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليحملنا؛ فلم
نجد عنده ما يحملنا عليه.. وليس عندنا ما نتقوّى به على الخروج معه؛ فأعطاهما
ناضحًا له – وهو الجمل الذي يستقي عليه الماء – فارتحلاه وزوّدهما شيئًا من تمر
فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وجاء المعذّرون من الأعراب؛
فاعتذروا فلم يعذرهم الله، وقد ذكر أنهم نفر من بني غفار..
وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتياب منهم: كعب بن مالك
بن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع، أخو بني سالم بن عوف، وهلال بن أمية،
أخو بني واقف، وأبو خيثمة، أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يتّهمون في
إسلامهم وقد امتحن الله إيمان الثلاثة الأول منهم فكانوا صادقين حتى أنزل الله
توبتهم في قوله سبحانه: ﴿وَعَلَى الثَّلـٰـثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوْا﴾(22)،
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة.. وخلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، على أهله وأمره بالإقامة فيهم؛ فأرجف
المنافقون وقالوا: ما خلَّفه إلا استثقالاً له، وتخفّفًا منه؛ فلما سمع ذلك عليّ
أخذ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله وهو نازل بالجرف(23) فقال: يا نبي
الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني أنك استثقلتني وتخفّفت مني فقال: كذبوا ولكني
خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك.. أفلا ترضى يا علي أن تكون مني
بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. فرجع عليّ ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
أما أبو خيثمة فإنه بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا جاء إلى أهله في يوم حارّ؛ فوجد امرأتين له في عريشين لهما في
حائطه، قد رشّت كل واحدة منهما عريشها وبرّدت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا
فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح – أي الشمس – والريح والحرّ وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ
وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف ثم قال والله لا أدخل عريش واحدة منكما
حتى ألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهئا لي زادًا ففعلتا.. ثم قدم ناضحه فارتحله. ثم خرج
في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير
بن وهب الجمحي في الطريق، فترافقا.. فلما أقبل قال الصحابة: هذا راكب على الطريق
مقبل. فقال صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة" فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة. فسلم على
رسول الله وأخبره الخبر.. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير(24)، كما ذكرنا بعضًا من ذلك من قبل.
وقد تخلف أقوام من العصاة، قيل عشرة، منهم
أبو لبابه فلما رجع رسول الله أوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد فمر بهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فقيل: إنهم حلفوا ألا يطلقهم إلا رسول الله ويعذرهم
فقال صلى الله عليه وسلم: "وأنا أقسم ألا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله عز وجل
هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين"، فلما بلغهم
ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا؛ فأنزل الله عز وجل:
﴿وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ
سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(25)
وعسى من الله واجب؛ فلما أنزلت أرسل إليهم رسول الله فأطلقهم وعـــذرهم فجـــاؤوا
بأمـــوالهم وقالوا: يا رسول الله هــذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا(26).
3 – أما الفئة الثالثة: فهم المنافقون،
وعلى رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي رجع بأتباعه من بداية الطريق وهم
كثيرون؛ ليوهنوا عن الجهاد وللرغبة في التخلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه الغزوة، ومنهم الجد بن قيس أحد بني سلمة الذي قال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه للغزو بتبوك: "يا جدّ ألك
العام في جلاد بني الأصفر؟" فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتنّي؛ فوالله لقد
عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر
أن لا أصبر فأعرض عنه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقال: "قد أذنت لك" ففيه نزلت: ﴿وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾(27).
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض لا
تنفروا في الحر زهادةً في الجهاد وشكاً في الحق وإرجافاً بالرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم: ﴿وَقَالُوا لاتَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ
جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾(28). وحدث
ابن هشام بسنده: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بلغه أن ناسًا
من المنافقين، يجتمعون في "بيت سويلم" اليهودي، يثبّطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه وأمره أن
يحرّق عليهم "بيت سويلم" ففعل طلحة(29).
وهؤلاء المنافقون تآمر نفر منهم على قتل رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالتّضييق على راحلته وأن يطرحوه صلى الله عليه وسلم من رأس عقبة في الطريق، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان بأسمائهم قيل عددهم(14)، وقيل (12) رجلاً. وقد روى حذيفة
رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "في أصحابي اثنا
عشر منافقًا، منهم ثمانية لايدخلون الجنة حتى يدخل الجمل في سم الخياط".
وكان ذلك النفر المتلثمون، قد اعترضوا في
العقبة؛ فصرخ فيهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم؛ فولّوا
مدبرين؛ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لحذيفة بن
اليمان وعمار بن ياسر اللذين كانا يحرسان رسول الله في الطريق: "هل عرفتم
القوم؟" قلنا: لا؛ لأنهم متلثمين. قال: "هؤلاء
المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟". قلنا: لا.
قال: "أرادوا أن يرجموا رسول الله في العقبة فيلقوه منها" قلنا: يا رسول
الله، أو لاتبعث إلى عشائرهم؛ حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: "لا، أكره أن
يتحدث العرب بينها أن محمدًا قاتل لقومه؛ حتى إذا أظهره الله بهم، أقبل عليهم
يقتلهم" ثم قال: اللهم ارمهم بالدبيلة"، قلنا يا رسول
الله وما الدبيلة؟ قال: "هي شهاب من نار تقع على نياط قلب أحدهم فيهلك"(30).
معجزات نبوّية:
يمتحن الله سبحانه إيمان ابن آدم بمواقف
يبرز من ورائها المحكّ الذي يتضح به النقاوة أو الكدر، وليتميّز الخبيث من الطيّب،
بحسب الحال في النفس، وفي الزمان والمكان؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، كانت للروم الذين امتد نفوذ سلطانهم
ذلك الوقت إلى ديار الشام في نفوس العرب مهابةً لكثرتهم وقوتهم، إلى جانب ما الناس
فيه من عسرة وشدة، وجدب في البلاد، والوقت صيفًا بحرارته اللاّفحة. وهذه أمور
ترهبها بعض النفوس، وتسعى جاهدةً في تحاشيها إلى جانب المنافقين المندسّين في صفوف
أهل المدينة، يساعدهم يهود المدينة في عداوة مضمرة وظاهرة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته جاهدين في النكاية والإضرار.
أما ما يرغّب فيه ويدعو إلى الدعة والركون
إلى ملذّات الدنيا: فإن الثمار قد طابت، والبساتين قد أينعت ثمارها، والناس يحبون
الإقامة في ثمارهم وظلالهم، ولا يرغبون البعد عنها.
فكان أهل النفاق الذين آمنت ألسنتهم،
وكذّبت قلوبهم، يعتذر بعضهم ويرجف آخرون، ويساعدهم في التثبيط بعض اليهود حتى
تخلّف من تخلّف إيهانًا للعزائم، ورغبةً في الإضرار بالنبي صلى الله عليه وسلم، والصفوة المختارة معه.
كما بان لنا في اجتماع ترأسه سويلم اليهودي
في بيته، حاكوا فيه الخطط للتثبيط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك؛ فأطلع الله نبيه على أعمالهم حيث بعث إليهم من يحرّق عليهم
بيت سويلم؛ فتم ذلك.
في هذا الجو المشحون بالتدابير البشرية،
والمخططات الهادفة إلى إسكات صوت الحق، والإرجاف برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، حتى ينفض الناس من حولهم: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَـٰـكِرِيْنَ﴾(31).
في هذا الجو المليء بالمؤامرات والمكائد
وتحركه قلوب امتلأت حقدًا وكراهيةً للرسالة وحاملها صلى الله عليه وسلم كان الجيش الذي التف حول رسول الله ودعوته الطاهرة النقية تكتنفه العسرة
والضيق الشديد من جميع المتطلبات المرغوبة لمثل هذه الحالة فهو في حاجة إلى ما
يؤمن غذاء المجاهدين وهو ما يعرف في المصطلحات الجديدة للجيوش: الإمدادات
والتموين.
فالدولة الفتيّة في المدينة لا ميزانية لها
تجعلها قادرة على تحمل جميع النفقات، ولا ثراء عند الصحابة؛ لأن المهاجرين تركوا
أموالهم وتجارتهم، وهاجروا لمدينة رسول الله رغبةً فيما عند الله، وأهل المدينة من
أهل الحرث والزرع؛ ولذا دعا رسول الله صلى الله
عليه وسلم الناس إلى
النفقة والمساهمة والحمل في سبيل الله، لبعد المسافة، ولمجابهة عدو أكثر عددًا
وعدةً. فتسابق المؤمنون الصادقون كل بمقدرته: من مال وزاد، وإبل ومتطلباتها؛ ليحمل
عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقراء – وهم كثرة – الراغبين في الجهاد، والاستجابة
لأمر الله وأمر رسوله صلى الله
عليه وسلم.
هذه الغزوة العظيمة – غزوة تبوك – التي بان
فيها زيف النفاق، وبروز خصاله: من كذب ومعاذير، وتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلل من أثناء الطريق، وتفضيل للدنيا وملذاتها على أمر الآخرة، وخداع
ومداهنة، وعداوة سافرة لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ومحاولة
القضاء عليه في مؤامرة دنيئة؛ لكن الله أطلع رسوله على كيدهم، وفضحت مؤامرتهم في
آخر لحظة، إلى جانب ما امتهنوه من غيبة ونميمة، وموالاة لأهل الكفر، وبغض لأهل
الإيمان ومحاربة لله ولرسوله، وإخلاف للوعد، وغير هذا من صفات أبانها الله سبحانه
في سورة التوبة حيث فضح الله ما كانت تضمره قلوب أولئك المنافقين.
كما بان في هذه الغزوة في الجانب الآخر،
قوة الإيمان، وصدق اليقين بوعد الله والسمع والطاعة واستجابةً لله ولرسوله، والتحمل
في هذا السبيل، بالجود بذلاً، وبالنفس فداءً وتضحية، حيث تغلّب الإيمان على هاجس
النفاق والكفر، وطغى حب الله وحب رسوله، على حبّ الدنيا وموالاة أهل النفوذ
والمال، من أعداء الله ورسوله؛ ففاز حزب الله بتحقيق وعد الله، على حزب الشيطان،
وكذب وعده.
في أيام تلك الغزوة العصيبة: انتصر الإيمان
على الكفر، وتغلّب صوت الحق على أدعياء الباطل، وعلت العقيدة الصافية على النفاق،
وأعطى الروم بكثرتهم وعدتهم ومهابتهم الجزية عن يد وهم صاغرون للفئة القليلة
المؤمنة؛ لأن النصر من الله، ينصر سبحانه أولياءه، ويمكنهم بدينهم الحق؛ ليستخلفهم
في الأرض.
في غزوة تبوك، برزت معجزات عديدة يثبت الله
بها إيمان الصادقين، ويقوى معها يقين المخلصين في نواياهم وحسن اتباعهم، وتقوم
الحجة على المنافقين الذين يرجفون في المجتمع المدنيّ، ويسعون بكل قدراتهم؛ حتى
يخلخلوا قاعدة الإيمان من النفوس، بالتشكيك في الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله طاهرًا نقيًا لا شبهة فيه ولا مراء: ﴿يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوْا نُورَ اللهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِه وَلَوْ
كَرِهَ الْكَـٰـفِرُونَ﴾(32).
وهذه المعجزات التي ظهرت في غزوة، هي من
معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن ما جاء به من عند ربه حق لا مراء فيه،
وبرهان على أن غزوة تبوك، وإن لم يأت فيها مجابهة مع العدو، كانت نصرًا مؤزرًا
للإسلام وأهله؛ فانتصر فيها الحق على الباطل، وانتصر رسول على أعدائه وأعداء دعوته الكفار والمنافقين،
وأبانت أن الله متم نوره، ومظهر دينه، ولو كره الكافرون. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد من ربه، يأتيه خبر السماء، بفضيحة تدابير أهل الأرض، وأن غزوة تبوك
كانت محكاً إيمانيًا ميّز الله به الضدين؛ فبان الجوهر الصافي بصدق المؤمنين وعرف
الزيف والزبد بعناد المنافقين؛ ففضحهم الله بآيات عديدة في سورة التوبة عن أقوالهم
وأعمالهم حتى سماها بعضهم الفاضحة.
* * *
الهوامش:
(18)
سورة الملك، الآية 2.
(19)
سورة الأنفال، الآية 24.
(20)
البداية والنهاية لابن كثير 5: 7.
(21)
البداية والنهاية لابن كثير 5: 13.
(22)
سورة التوبة، الآية 118، وتنظر تفاصيل توبتهم عند الطبري في تفسيره ج15.
(23) موضع على ثلاثة أميال
من المدينة، ما بين محجة الشام إلى القصاصين أصحاب القصة وبه بئر رومه وفي حديث
أنس في خبر الدجال أنه لايدخل المدينة ويضرب رواقه بسبخة الجرب [انظر تاريخ
المدينة قديمًا وحديثًا لأحمد الخياري المتوفى عام 1380هـ ص 239].
(24)
يراجع في هذا السيرة النبوية لابن هشام 4: 161-164.
(25)
سورة التوبة، الآية 102.
(26)
البداية والنهاية لابن كثير 5: 33.
(27)
سورة التوبة، الآية 49.
(28)
سورة التوبة، الآية 81.
(29)
البداية والنهاية 5: 6-7.
(30)
انظر البداية والنهاية لابن كثير 5: 24-27.
(31)
سورة الأنفال، الآية 30.
(32)
سورة الصف، الآية 8.
* * *
رجب 1430 هـ = يوليو 2009 م ، العدد : 7 ، السنة : 33